فن وثقافةمجتمع

أنا أيضًا تعرضت للتحرش .. تناول مسلسل لام شمسية لقضية التحرش بالأطفال

القاهرة: العاصمة والناس    

تابعتُ باهتمامٍ شديد مسلسل «لام شمسية»، الذى أراه- كما يراه العديد من النقاد وصنّاع الدراما- أفضل إنتاج درامى فى الموسم الحالى، وربما الأبرز خلال العقد الأخير. أعاد هذا العمل الروح إلى الدراما المصرية الحقيقية، حيث تألقت فيه مواهب صاعدة، وانفجرت ينابيع الإبداع دون تكلف أو ابتذال، ليقدم لنا طرحًا جريئًا يعكس واقعًا نعيشه لكنه نادرًا ما يُناقش بعمق. ما يجعل «لام شمسية» عملًا استثنائيًا لا يقتصر على مستواه الفنى المبهر، بل يتجلى فى شجاعته على اختراق المسكوت عنه. ففى حين سبق لفيلم «عمارة يعقوبيان» أن تناول قضيتى التحرش والمثلية الجنسية، يأتى هذا المسلسل ليغوص فى منطقة أشد قتامة وأكثر إيلامًا: البيدوفيليا أو التحرش الجنسى بالأطفال. ربما يكون هذا أول عمل درامى مصرى- وربما عربى- يتناول هذه القضية الحساسة بشكل مباشر وصادم، كاشفًا 

وأثناء متابعتى ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعى، لفت انتباهى منشور لأحد الأصدقاء كتب فيه: «مين فينا متعرضش لتحرش؟» لم يكن هذا مجرد سؤال عابر، بل كان صرخةً تحمل وجعًا دفينًا، ومرارةً تختبئ خلف الصمت. وبين التعليقات الحزينة والتجارب المؤلمة التى شاركها البعض، أدركت الحقيقة القاسية: التحرش واقعٌ مرير مررنا به جميعًا، بأشكالٍ متفاوتة، وبدرجاتٍ مختلفة، لكنه فى النهاية انتهاكٌ يترك ندوبه فى النفس.

فالتحرش ليس مجرد اعتداء جسدى، بل هو طيفٌ واسع يمتد من اللمس غير المبرر، والتحسس، والاقتراب المريب، إلى التهديد، والابتزاز، والتعرى القسرى. وحتى التحرش غير المباشر- كالنظرات الفاحصة، والتعليقات الوقحة، والصفير، والملامسات العابرة- كلها تصب فى النهاية فى نهرٍ واحد من الانتهاك، نهرٍ لم ينجُ منه أحد، لكنه ظل يتدفق فى الخفاء، حتى جاءت أعمالٌ مثل «لام شمسية» لتكشف المستور، وتدق ناقوس الخطر.

التحرش ليس لحظة عابرة.. بل ندبة لاتزول

تؤكد الدكتورة إيمان عبدالله، أستاذة علم النفس التربوى، أن التحرش الجنسى بالأطفال ليس مجرد اعتداء لحظى، بل جريمة تترك أثرًا لا يُمحى، إذ تتحول إلى ذكرى مؤلمة تطارد الضحية مدى الحياة. وتشير دراسة صادرة عن يونيسف إلى أن ٨٣٪ من الأطفال المعتدى عليهم يختارون الصمت، إما خوفًا من التهديد، أو شعورًا بالخجل، أو لأنهم ببساطة لا يدركون أن ما تعرضوا له جريمة تستوجب العقاب.

فى لقاءٍ تليفزيونى، كشفت الكاتبة مريم نعوم، مؤلفة مسلسل «لام شمسية»، عن دلالة العنوان، موضحة أن اللام الشمسية فى اللغة العربية موجودة لكنها لا تُنطق، تمامًا كظاهرة التحرش، التى تُمارس يوميًا لكنها تظل فى الظل، مسكوتًا عنها. وأضافت أن معظم المصريين، رجالًا ونساءً، مرّوا بتجربة تحرش بأشكالٍ مختلفة، لكنها تُعامل كأنها غير مرئية.

عند سماعى كلماتها شعرت بقبضة باردة تعتصر صدرى… لأننى، أنا أيضًا، لدىّ قصة.

قصة لم تندثر رغم مرور الزمن، ظلت تسكننى، تشوّه رؤيتى للعالم، وتشعل داخلى تساؤلات بلا إجابات.

لطالما ظننت أننى وحدى من تحملت هذا العبء، حتى أدركت أننى مجرد صوت فى جوقةٍ صامتة من آلاف الضحايا.

قصة تشبه اللام الشمسية.. حاضرة، لكن لا تُنطق.

لكننى اليوم.. سأتحدث.

لماذا الآان؟

لا أعلم لماذا قررت الحديث فى هذه اللحظة بالذات، ولماذا اخترت أن أكسر حاجز الصمت بعد سنوات طويلة من الكتمان. فأنا ابنة هذا المجتمع الشرقى، أعرف جيدًا ما قد أواجهه من انتقادات، اتهامات، وظنون لمجرد أننى أروى حكايتى. لكننى أدرك أيضًا أن الصمت لم يكن يومًا علاجًا، ولم يُخفف عنى أبدًا ثقل الألم، بل زاده وطأة.

لأكثر من ثلاثين عامًا حملت هذه الذكرى كصخرة جاثمة على صدرى، تزداد ثقلًا كلما حاولت دفنها فى أعماقى. لكن اليوم، لم يعد بإمكانى تجاهلها. ترفض أن تبقى فى الظل، أن تُطمَر تحت طبقات الإنكار. اليوم، أريد أن أزيحها عن كاهلى، أن أواجهها، أن أكشف حقيقتها.. لعلها تبرأ أخيرًا.

يعود إلى ذهنى مشهد من «لام شمسية»، تحديدًا ذلك المشهد الذى جمع نيللى «التى جسّدتها أمينة خليل» بابنها يوسف، حين كانا مستلقيين على السرير، يتحدثان عن قرارها بفضح المتحرش عبر وسائل التواصل الاجتماعى. سألها الطفل ببراءة: لماذا قررت الحديث علنًا؟ لماذا أعلنت عن واقعة التحرش التى تعرضت لها؟ ولماذا كشفت أيضًا أنها مرّت بتجربة مماثلة؟

أجابته نيللى بجملة علقت فى ذهنى:

«تعالى نعتبر إننا وقعنا فى بلاعة، هنعمل إيه عشان الناس تساعدنا؟»

فيرد يوسف: «هنصرخ!»

فتقول له: «بالظبط! أنا عملت كده عشان الناس تعرف إننا فى البلاعة، وأول ما نخرج منها ونتنضف، هنحاسب الشخص اللى ساب البلاعة دى مفتوحة!»

ذلك التشبيه أصابنى فى الصميم. كم مرة شعرت بأننى غارقة فى «بلاعة» من الذكريات القذرة، لكننى كنت أخنق صرختى، وأقنع نفسى بأن التجاهل كفيل بمحو الألم؟!

«البالوعة» يجب ألا تبقى مفتوحة!

عدتُ مؤخرًا إلى بيت العائلة بعد سنواتٍ من الغربة، باحثةً عن دفء الذكريات وونس الأيام القديمة. كنتُ أظن أننى سأجد فى هذا البيت حضنًا دافئًا يعوضنى عن سنين البعد، لكننى لم أكن أعلم أن الماضى كان ينتظرنى عند العتبة، متحفزًا ليعيدنى إلى كوابيس ظننتُ أنها دفنت منذ زمن.

فى ذلك اليوم، بينما كنتُ أتسوق لشراء بعض احتياجات المنزل، رأيته…

وقف فى الشارع المقابل، فاجأنى كصفعةٍ قاسية أعادتنى دفعة واحدة إلى زمنٍ حاولتُ دفنه فى النسيان. للحظة، تجمدتُ فى مكانى، وأنا أشعر كأننى كنتُ أخفى جرحًا متقيحًا تحت طبقاتٍ من العطور الفاخرة، متوهمةً أنه لم يعد موجودًا، بينما الحقيقة أنه لم يندمل يومًا.

بخطواتٍ واثقة، اقترب منى كعادة الأقارب حين يلتقون بعد سنوات، مدّ يده ليصافحنى بحرارة، كأن شيئًا لم يكن، كأنه لم يترك فى روحى ندبة لا تزول. حدّقتُ فى يده الممدودة، لكننى لم أمدّ يدى، لم أستطع. تجاهلته تمامًا، ورأيتُ فى عينيه لحظة ارتباكٍ قبل أن ينسحب مسرعًا، كمن يدرك فجأة أن ماضيه قد لحق به.

فى ذلك اليوم، نكأ جرحى مجددًا، أعاد إلىّ كل تفاصيل غدرته بى وأنا طفلة، وكأن الزمن لم يمضِ، وكأن الطفلة التى كنتُها ما زالت واقفة هناك، عاجزةً عن الهروب.

ظَهَر أمامى فجأة، فتمزقت الضمادات الهشة التى كنتُ أغطى بها ندبة الماضى. فى تلك اللحظة أدركتُ أن التجاهل لم يكن نسيانًا، وأن الهروب لم يكن شفاءً. هذه المرة، لم أعد تلك الطفلة الصامتة، بل امرأة قررت أن تواجه، أن تنزع عنه قناع البراءة، أن تكشف قبحه المستتر بلا خوف. ربما، بهذه الشهادة، يلتئم الجرح الذى ظل مفتوحًا لسنوات، وربما أجد أنا أيضًا طريقى إلى الشفاء.

كنا أقارب…

كانت والدته امرأةً حنونة، طيبة، دافئة الابتسامة، تمامًا كما تخيلتُ دومًا صورة الجدة. كنتُ طفلةً فى التاسعة، وكان ابنها الأكبر- فلنسمِّه «أسامة» – شابًا فى الثانية والعشرين. كنا نتردد على منزلهم كثيرًا، كعادة العائلات فى ذلك الوقت، نزورهم فى المناسبات، نتبادل الأطباق، وأحيانًا كنتُ أذهب وحدى لإيصال رسالة أو قضاء مهمة صغيرة.

أتذكر تلك السنوات بصورٍ باهتة، كأنها ظلالٌ تتلاشى فى ذاكرتى، لكن هناك مشاهد لا تُمحى أبدًا…

يدٌ تتحسس جسدى فوق ملابسى، أصابع تتسلل إلى شعرى، تلامس شفتى، نظراتٌ تشعرنى بالقيد، ورعبٌ يتملك كيانى. لا أذكر أننى قاومتُ، كل ما أذكره أننى كنتُ أرتعش تحت سطوة الخوف، وأنه كان يضع إصبعه على شفتى محذرًا: «اصمتى!».

كبرت… ومرت السنوات… 

سمعتُ أنه تزوج، فشعرتُ ببركانٍ يغلى بداخلى. كيف يعيش جلادٌ حياةً طبيعية، بينما تحمل ضحيته ندبة لا تلتئم؟ كيف يمضى بسلاسة فى أيامه، بينما تُطاردنى ذكرى يده الثقيلة التى امتدت إلى جسد طفلة لم تدرك حينها سوى الرعب؟

لكن اليوم، قررتُ أن أكسر الصمت، أن أخرج الجرح إلى العلن، لا انتقامًا لنفسى فقط، بل انتقامًا من كل «أسامة» يسكن فى ظلال العائلات، ويختبئ خلف جدران الصمت والتواطؤ. أدعو الجميع- رجالًا ونساءً- إلى كسر حاجز الخوف، إلى الصراخ عاليًا حتى نغلق هذه «البالوعة» التى تبتلع الأبرياء فى كل شارع!

هذه ليست مجرد شهادة، بل صرخة لكل ضحية لتتحدث، وناقوس خطر لكل أسرة لتفتح أعينها، ورسالة لهذا المجتمع: «البالوعة» لا يجب أن تبقى بلا غطاء محكم يحمى الأبرياء من السقوط فيها!


اكتشاف المزيد من العاصمة والناس

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى